الثلاثاء، 6 أكتوبر 2009

أطول يوم من عمر الزمن

أخيرا تذكر معنى كلمة أجازة ... ثلاث و سبعون ساعه كامله يستطيع التمتع بها ... لم لا و قد أتت بعد ليال طويله مرت عليه طوت به الزمن و طوى الزمن بها و عيناه تصادق نجوم السماء فى كل ليله وهو يدعو بانتهاء تلك الحرب ...و أحساس عميق بالأسف و الحنق ينتابه كلما أرتدى زيه العسكرى ... يشعر به يضيق اليوم عن الأمس , و الامس عن سابقه ... كأنه يعلن مثله عدم التحمل ... حتى شارته التى تدل على أنه عريف فى الجيش المصرى مما يجعله يفخر رافعا رأسه لأعلى ... لكن صيرورة هذا الجيش مهزوما تجعل يده تنزع بغضب هذه الشارة و تلقيها بعيدا ... وكم فعل و كم أعادها الى ذراعه هتاف داخلى لم يغادر شفتيه قط:-"- كلا... لم نهزم ... بل هى نكسة ... نعم هى نكسة ... نحن لم نحارب كى نهزم ..أنا لم أر عدوا أقاتله و يقاتلنى كى أعترف أنه قهرنى ... لم نهزم ... لم نحارب ..."و لكن صوته يتردد فى جنبات صدره كزوبعة فى فنجان سرعان ما تهدأ و تزول مع تصاعد صوتا أخر يمزقه تمزيقا: -"بل لقد هزمتم شر هزيمة و ضاعت سيناء نتيجة لحماقاتكم ..."حتى منظر أهله وهم يستقبلونه بالترحاب عكر صفوه بهلول القرية حين أقبل عليه و صياحه المختلط أستطاع أن يميز منه بصعوبه: -"ما تخافش ..أنا عايزك ما تخافش ... خليهم يضربوا فيك ... خليهم يهدوك ... بس المهم الأنسحاب بتاعك يكون صح...() قولوا لعين الشمس ما تحماشى ... أصل الجيش المصرى راجع ماشى ()...يا عدوى ... اوعى الطيارات يا جدع ...."ينهره بعض أهله فيبتعد البهلول وهو يردد ما فتأت مصر كلها تردده طوال ست سنوات ... كلمات ليست بالكلمات بل هى لطمات سوط جلدت حتى أدمت فصار لها الصوت الأعلى ... كانت أعلى من صوت المعركة نفسه...و صوت جمال ... ذلك الحلم الذى صارت كلماته ترياقا عجيبا بدل دماء المصريين و جعلهم –اخيرا- و بعد مئات سنين الذل و المهانه على يد مختلف المستعمرين ... جعلهم يرفعون رؤوسهم عاليا حتى أينعت ...لكن الصدمة لم تدع رأسا الا و أطاحت به ... و ذهب ناصر و جاء بعده السادات ...أستبشر خيرا به و هو يزور ثكنات الجيش و يرفع الهمم ... لكن...ابتسم القائد عندما سأله ..."احنا أمتى ح نحارب ؟" -"وهى الحرب دى كلمه سهله ... مش لازم يكون فيه استعدادات ..." -"بس الهزيمة طعمها مر قوى..."-" خليها تزيد فى المر ... عشان بكرة نقدر نستطعم حلاوة النصر..."و لكن الكلمات ...كل الكلمات ... ماتت كعادتها أسرع من سابقتها ....() العام هو عام الحسم ()...... ... أخيرا سأحارب ... سأنتقم ... سأثأر...ومر عام الحسم ... و لم يكن هناك حسما لأى شئ ...يبدو ان مصر قد أنتهت ... نظرات أهله تنبأه بذلك...و كلمات البهلول المتهكمه:-" عارفين لو يدونى سلاح ...و رب الكعبة أجرى أعوم فى القنال دى و أعديها الناحيه التانيه و أنزل فى الصهاينه دول ضرب ..ده أيه ده يا جدع ؟! "حتى البهلول فى لحظات تعقله القليلة مازال يكرر لطماته ...لكن اثرها يضيع عقب صياحه و تهليله ... لم ترحم الهزيمه الرجل و حولته الى مكذوب... الى بهلول... معظم كلامه هرتلات ... والقل القليل سهاما دامية يشعر بها توخز قلبه ...أليس على الجبهة؟..ألا ترى عيناه الصهاينه؟!... ليفعلها أذن...القائد بصرامه يقول : -"انا مش ح أنبه تانى ... العمله اللى عملها زميلكم دى غلط ... لازم نمسك أعصابنا وما نشتبكش مع العدو الا لما تيجى أوامر ... حتى لو ضرب علينا نار ماحدش يضرب الا بأوامر ...أنا مش ح أديك جزا لكن ما تتكررش ... ضرب نار تانى لأ ... "أختلس نظرة جانبيه الى قائد كتيبته و هو يتساءل:-"أجادا هو؟! ... أأعطى عدوى خدى الأيمن و الأيسر أيضا ثم أسأله ماذا يريد بعد ؟!"شعورا قويا بأن الكل يخذله ... حتى ذلك الذى أستيشر به خيرا و هو يسمع خبر توليه قيادة سلاح الطيران ... سمع اليوم فى الراديو خبر سفره الى ليبيا ... لا يعلم لماذا أنقبض قلبه لهذه الزيارة ... تمنى لو لم يقم بها ... تمنى أن يكون ذلك كله كذب ...لماذا يسافر و يترك مصر و طائرات مصر ... نسورها , و لو لحظه واحدة ... لكنه لم يبح لأحد بأمنياته ...الساعة الثانية ظهرا... منظر القنال أمامه و علم اسرائيل يرفرف على الضفة الأخرى يستفزه... لكم تمنى و دعا الله أن يتمكن من نزع هذا العلم ليمزقه و يعطيه للبهلول كى يرحمه من سخريته اللاذعة ... صلى الظهر ...وما ان أنتهى حتى سمع همهمات ...أزيز طائرات مصريه فوقه تعبر القنال متجهه (لأم مرجم ) ... من أين أتت ؟! لا يعلم ... أحصى عدد الطائرات بسرعه ... ثوان بطيئة مرت ... ثم عادت الطائرات مرة اخرى و الأنفجارات خلفها تشق عنان السماء ... أحصى عدد الطائرات ...تخيل أنه أخطأ العد فى واحدة ...لايهم ... حتى و ان لم تعد .... يكفى أن الضربة الأولى نجحت ...و حان دوره ... لم ينتظر صدور أوامر هذه المرة ...كان الأمر يبدو وكأنها قد صدرت بالفعل...الكل يعلم بها ... و يعلم ما عليه فعله ...رمال سيناء الناعمة تتشبث بالأقدام الطاهرة كأنها تحتضنها... عيناه لم تفارق منظر العلم الأسرائيلي حتى أمسكت صوابعه به و بمرارة السنوات مزقه ووضع بقاياه فى جيبه ...و من حوله جنودا تحولوا الى كتل نيران متحركة تحرق الأحتلال...أعصارا كاسرا يغسل سيناء من دنس الصهاينه...هذه المرة لم يخذله أحد ... كل قادته كانوا على صواب ... كأنه وحده لم يكن يعلم أن غبار النكسة قد نفضه الجميع من على الثياب ..وحده لم يكن يعلم أن هذا الشعب محال هزيمته ...محال كسره ... محال ان يمتهن أو يحتقر ... محال أن ينبطح أرضا أو يزحف ...محال أن يموت أبدا...أجازته التالية كانت احنفالا من أهل قريته به... لقد غيرت الحرب الجميع ...صار الكل يرفع رأسه عاليا دون خوف ... صار فخره بزيه العسكري أسطورة تروى ... لقد صدق جمال .. و صدق السادات... و صدق مبارك ... فصدق معهم الشعب كله...حتى البهلول رجع له عقله و هو يتغنى ممسكا اثمال العلم بيده اناشيد النصر و يقول:- "بقى هو ده علم اسرائيل ؟!... جتهم ستين خيبه ... أنا مش قلت لكم ؟!... أحنا بس نعدى الناحيه التانيه و نوريهم شغلهم ... دول ما أخدوش غلوة يا جدع ... و الله براوة عليكو يا رجاله..".و أخيرا عرف وجهه الأبتسام... و تذكر قائد كتيبته وهو جالسا على الأرض يداعب بأصابعه الزرع الاحضر و عيناه تعانق أرضه الممتدة أمامه... ... () خليها تزيد فى المر ... عشان بكرة نقدر نستطعم حلاوة النصر ( )... ...صدق القائد ... هو أيضا لم يخذله...ياااه!! .... لم يكن يعلم أن حلاوة النصر بهذا الجمال ... لقد كان أجمل يوم ... من عمر الزمن ...و أغمض عينيه و أستراح هادئا مطمئنا ... ينعم بالسلام ... السلام الذى صنعه هو و زملاءه بالعرق و بالدم ...فاليوم الذى أستطال فصارت مدته ست سنوات ...انتهى الأن فقط .

الجمعة، 2 أكتوبر 2009

كعب اخيل

هي : تنهدت في بطء و هي تتابع اقترابه منها ... تراه واثقا الخطوة يمشي ملكا كلما خطا خطوة كلما تصاعدت دقات قلبها راسما صورة فارس الاحلام التي احتلت عقلها منذ وعت ... و تصاعدت اكثر كلما طابقت هذه الصورة مع صورته ... ادمانها لكلمات الحب حين تسمعها من شفتيه ... الدفء اللذيذ كلما مست اصابعها اصابعه أو أحتضن لسانها بلسانه ينسيها مخالب شبح يهددها كلما زادت سنوات عمرها فتزداد تنازلاتها بأي شكل و تحت قانون خاص تحدت به كل القوانين ... انها تريده ... وهذا يكفي لكي تستسلم له تماما .
هو: لم تكن الاولي و لن تكون الاخيرة ... مجرد فتاه تحتاج بعض الوهم لكي تعيش متوجة في مملكة الرومانسية الوهمية ... و كان يملك ما تريده معنويا ...و تملك هي ما يريده مجسما ... بعد كل ما لاقاه صارت هي نقطة النجاح الوحيدة وسط كتلة الفشل التي يحياها ... يداعب مصحفه كلما ازدادت قسوةالواقع و احباط المستقبل و كراهيته لكل ما و من حوله...
- انت بتقرا قرآن ؟! ... ح يقولوا عليك ارهابي.
- انا بأقرا قرآن... علشان م ابقاش ارهابي.
و لكنهم لم يصدقوه ... ساعات التعذيب اعجزته عن حسابها ... انتهكوا ادميته بكل الطرق ... المساومة واضحة ... اما ان تكون معنا ... او نكون عليك ... رفض ... دفع الثمن غاليا ... تركوه حطاما ... جاءته تلملم بقاياه .
هما : شحذ لسانه بأسنانه كسيف يستله كلما قابل فتاة ... تماما كما تفعل هي بنظراتها كلما قابلت فتي ... يجيدا لعب دور الضحية و يطيعا ما يلقنهما به المجتمع
- ح نعمل ايه النهاردة ؟... - و هو احنا بنعمل ايه كل يوم ؟
خطوات اقدامهما صادقت الطريق من كثرة اللقاء ...
- بس ده حيعدي النهاردة ... - و ايه يعني...
- ف نفس المكان... - هو مش مكفيه البلد كلها جاي كمان يضيقها علينا ؟ ... جاي كمان ياخد طريقنا ؟
- ماعلش ده يوم... - لأ.... - اعقل ... - كفاية بقي .
صمتت ... ظنتها مجرد كلمات ... عقارب الساعة كقدمي حصان يعدو بأقصي طاقته ... جاء ... يبتسم ملوحا بيده من السيارة تاركا حرسه الخاص يدفعونهما بخشونة اكثر و اكثر الي الخلف ... تمسك به بقوة ... تحس بغضبه ... تستميت اصابعها في محاولة امتصاص غضبته ... لكن عينه لم تعد تري غير اليد الملوحة ... يتملص منها فجأة و هو يعدو بأقصي قوته صارخا ... صرخت ... انتبه الحراس ... بضع طلقات تكفلت بأعادة الهدوء ... دموعها تنساب لتفترش الارض حيث تهاوت جثته خلف السيارة المتهادية ... تلمح بالكاد اليد التي لم تتوقف قط عن التلويح رغم خلو الطريق ... و فوهة مصوبة في هدوء لم تميز في ملابس صاحبها غير علم وطنها ... وطريقا كان يرتوي بكلمات الحب ... فصار يرتوي بالدماء.