الخميس، 18 ديسمبر 2008

مختارات من مجموعة قصصي

بايع نفسيصوت أمه و هي توقظه جعله يهب فزعاً ... لم تكن تلك طريقتها في إيقاظهِ ...اللمسة الحانية و البسمة الصافية و الصوت الملائكي الذي يهمس باسمه في موسيقا مقتبسة من ألحان الفردوس... كل هذا صار ذكرى ... نزعها للغطاء كأنها تنفض أثارهِ كلها من عليه ... إحساساً يتوغل داخله بالإهانة ...لكنها أمه ...و هو يعلم لماذا تفعل كل هذا .... باستسلام تامٍ قام ...و بصمتٍ و خضوعٍ أدى طقوس الصباح المعتادة ...حول الطعام وجدها تضع لقيمة في فمها ...تتبعها بأخرى ....نظرة تحمل مشاعرٍ شتى له ...ثم قيامها دون أن تكمل إفطارها ...أنحشر الطعام في فمه ...لم يستطع التحمل ....لكنه لم يستطع الاعتراض ...دخل في ملابسه بسرعة و هو يأخذ بعض القروش القليلة التي تكاد تكفيه المواصلات ...يتجه نحو الباب ...إلتفاتة إلى والدته التي رمقته بصمتٍ ...ثم تحولت نظرتها نحو المكتب الذي طالما جلس عليه يستذكر حتى أنهى دراسته و حصل على شهادته الجامعية ...و التي تختفي خلف تراب كث غير ملامحها و نال من إطارها المصدئ ما نال ...لم يكن فيما مضى يحتاج لمناشدتها الدعاء ... كانت تدعو له منذ تستيقظ و حتى تنام ...و هي جالسة على سجادة الصلاة ...أو كلما فكرت فيه أو ذكر أحدهم أسمهِ أمامها ... يكاد يجزم أنها كانت تدعو له حتى في أحلامِها ... تلتقى العيون ...يتوسل إليها أن تنطقها ...دعوة واحدة لكي يبدأ بها يومه ...ترتجف شفتاها ... ثم تشيح بوجهها الممتلئ غضباً ... يخرج من المنزل ... خطواته سريعةً كأنه يهرب من نظرات جيرانه و التي يشعر بها شامتة ... يحاول البحث عن عمل كالمعتاد ...مرة...أخرى ... عام ... أخر... و النتيجة أيضاً كالمعتاد ... كل مكان يذهب إليه يدلى بكل ما يحمله من شهادات و أوراق ... يقينه بأنه جمع كل الوراق يجعله واثقا ً ... لكن ثقته تنساب من بين أصابعه هاربة و نظرة الرفض تتكرر من العيون حتى آلفها ...ماذا يريدون إذاً؟ ...لا يعلم ...حنقه يزداد ...غضبه يزداد ...و إرهاقه يزداد...مع غروب الشمس كانت قدماه قد تورمتا ...جلس قبالة النيل يشكو همومه لصفحته الخالدة ...جاءت إليه ...أشادت بدقته فى المواعيد ...و مثل المرة الأولى حين تعارفا ودون أن تسمع رداً أخذت تسرد عليه أحداث يومها ...أبناءها مازالوا على رفضهم فكرة زواجها من شابٍ يصغرها ... كما إنه لا يملك مالاً و لا يعمل ... لكن لا يهم ... إنها تحبه ... تعشقه ... ومستعدة لإعطائه كل شئ... مهما قال الناس ...و منذ متى تهتم بكلام الناس ... ليذهبوا إلى الجحيم ...وامتدت يدها تتناول يده ... إنها تدعوه إلى الجنة ...جنتها ...قدرته على الاعتراض أو المناقشة صارت سرابا لا جدوى من الإمساك به ... لكن إحساسا بأنها تقوده الى نهايته كشابٍ حمل يوما ً من الكرامةِ ما حمل ... يجعل كل الأمور حوله تختلف ... يدها التي امتدت لتلامس أصابعه احس بها توقع حكم إعدامه ...و لم يتبق الإ التنفيذ... في اليوم المحدد ,بعدما غرٌبت الشمس بدأت المراسم... يدها تحكم على يده ... كأنها تمسك به شبابها الذي انقضي ... نظرات سخرية حولهما لا تخطئها العيون ... لكنها ابتسمت في هدوء و كل شعرة فيها تصرخ:
- أين كانوا وهى منبوذة تعانى وحدتها بعد وفاة زوجها و قطار العمر ينفث دخانه معلنا قرب الوصول لمحطة النهاية ...
هاتفه المحمول - الذي ابتاعته له- يرن ...امتدت أصابعه ليخرجه من مكمنه ... أصابعها كانت أسرع في إغلاقه...نظر إليها ... قالت :
- " الليلة دى بتاعتى أنا ... و مش عايزه حد يشاركك فيّا " ...
تهاوت عيناه إلى الرقم المسجل ... تعرفه ... اندهش ... كيف علمت برقمهِ هذا ؟ ...لابد و إنها أمهٌ تحاول نجدته مما هو مقبل عليه ... لكنها اختارت خطاً ... هذه الفتاة بالذات لا يمكن أن تثنيه عن عزمه ... لا يمكن أن ينسى وعودا بالحياة معاً و مواجهة الصعاب و مشاعرا صافيةً صادقة ... كل هذا نثرته لتخطو عليه بقدميها ...أمام أول عقبةٍ أعلنت الاستسلام ... بهرتها السيارة الفارهة و الفيلا الأنيقة ... و عندما عاتبها كان ردها جاهزاً...
- ( إنها صفقة... حتى و إن كان زوجي اكبر من أبى ... حتى ولو كان اكبر من جدي... إنها صفقة ...)
و الغريب أن الكل بارك لها اختيارها و أثنى على ذكائها و حكمتها و عصريتها و...و...و... فلماذا لا يفعلوا معه هذا ؟! ... لماذا يتهمونه بأنه ...و أنه ...و انه .... رغم أنه يقلدها فحسب ... هاتفه يرن مرة أخرى ...هذه المرة كانت أصابعه هي الأسرع ... كانت هي مرة أخرى ...يجب أن تجيب ... بعنفٍ أمرته بقايا حبها فى قلبه فأمتثل ...استأذن في الانفراد بنفسه دقائق ... بابتسامةٍ صفراء أحس بها تأمره:
-" لا تتأخر ..."
جاوبها بإيماءة صاغرة ... أغلق الباب خلفه ... وأجاب المكالمة ... سخرية كلماته الأولى جعلتها تتخطى المقدمات التقليدية ...
-" أعترف أنى أخطأت ... أعترف إني خائنة ... بل وأكثر من هذا ... اعتبرني كما تعتبرني ... لكن لا تفعل هذا بنفسك ... أنت لا تتصور فداحة الثمن ... إنهم نخاسون ... يعتبرونا مجرد أجساداً بضةً يستنزفونها لاعبين بها كالدمى ... ويفعلون بها ما يشاءون " ...
و بصوت اختنقت عبراته قالت :
- " أنا جوزي بيعاملني كآني جارية مش بنت محترمة استنت عمرها كله عشان اللحظة دى ... عارفة إن غلط و ذنب كبير أن أقول كده ...لكن أنت عارف مقدارك و غلاوتك عندي ...".
قاطعها بصوتٍ لم يدر كيف تحمل بكل هذا الجفاف :
-"أنتي أزاى وصلتي لأمي؟" ...
لكنها كانت عملية جدا كالمعتاد ... و كأنها متوقعة منه ما هو أكثر ...أخذت تحدثه عن ذكرياتهما معاً ... و كيف عرفت منه كل شئ عن عائلتهِ ... وعن عظمة أمه التي تحملت بعد وفاةِ والدهِ ما لا يتحمله بشر من أفعال طامعى الدنيا ... ">
-إنتى أزاى وصلتي لأمي؟"
كررها بقسوةٍ... رد عليه أخر صوت يتوقعه في هذه اللحظة... بكل حنان الدنيا التي أحس بها تكرهه جاوبه همس أمه:
--" تفتكر أقدر استحمل أشوف ابني يضيع و افضل ساكته؟"..
صمته التام أمام صوت والدته التى شعر بكل أحاسيسها أيادٍ تحمله كالمعتاد و تهدهده ... "-
ح تبيع نفسك؟!...
" بصوتٍ غطت عليه و خنقته أصوات الصراع بين قلبه و عقله قال:
-" اسأليها..."
ردت أمه:
-" و أنت بتحسب أنها سعيدة باللي فيه؟!"...
-" -هي اللي اختارت"... –
"و أنت اللى بتختار د لوقتي... بس ميزتك إن نهاية الاختيار واضحة قدامك..."... دموعه تنهمر وهو يتمنى الانطلاق مختبئاً عن الدنيا كلها ... أصوات عديدة تنادى عليه خارج الغرفة ... يتمنى أن يهرب من الدنيا كلها بقسوتها و جفافها و ماديتها الحقيرة التي تمتد بوقاحة لتصبغ الناس بحقارتها ... الطرقات تتعالى ... مازال بيده الأختيار ... بكلمة واحدة سيقيد نفسه ... و بكلمة واحدة سيحررها ... سيشتريها ... لكن كيف ينسى واقعه المظلم و صوتاً غريباً عنه يهتف داخله:
"- أتذكر منظر حذائك المقطوع و ملابسك الرثة ؟! ... أتذكر مشهد وداع من أحببت و لحظة ضياع هذا الحب ؟... أتذكر معاملة أمك الجافة و أنت تبحث عن عملٍ و لا تجد رغم توفر كل متطلبات سوق العمل لديك ... أتذكر ظن الجميع فيك التهاون و الخنوع ؟!... زواجك هذا سيوفر عليك سنيناً من العمل , وسيحميك من الانحراف الخلقي و أنت شاباً لك احتياجات... يجب عليك أن تتقن و تتأكد ... تتقن أن المجتمع بأكمله لا يجديه بؤسك ولا سعادتك قدر ما يجديه الحفاظ على قيمه و مبادئه العتيقة مهما ضحى فى سبيل ذلك بالأرواح ... وتتأكد أنك كشابٍ رافض أن تكون ضحية جديدة فأنما تعلن لنفسك حياة جديدة."
و يتهاوى الصوت البراجماتى داخله أمام صوتٍ أخر لم يخفت بعد...
-"و ما جدوى حياة جديدة فى روحٍ ميتة و قلبٍ تحللت جثته ؟!..."
و يصرخ عقله :
- " لكنى أستطيع العودة "...و يرد عليه صوت :
- " ... ح تموت و اللي بيموت ما بيرجعش..."...
مازال يهتف :
- " أنا ح أقدر ... أنا غير كل اللي ماتوا ... أنا باقتل روحي عشان أوهب ليها الحياة ... انا راجع...راجع ...راجع..."...
و بيد هربت الدماء من عروقها ...و بصوت شبحٍ...أغلق الهاتف و هو يفح :
-"ما تخافيش يا أمي ... قريب قوى ح تلاقينى راجع ليكى ... بس أنتِ ادعى لي..." ...
و اتجه نحو الباب ... فتحه ... تلقته نظراتها الصارمة ...و عبارتها التي حاولت أن تقولها ناعمة:
-" مش قلت لك إنك الليلة دى بتاعى أنا و بس؟!..."
ناولها الهاتف و هو يجاهد لحفر ابتسامة على صخور شفتيه...و ينطلق معها ليكمل مراسم دفنه .

حضن بارد

أحتضن أوراق عمله محاولا حمايتها من الامطار و هو يتخذ الطريق للعقار الذي سيحجز عليه . و فكرة طرده لأناس من مسكنهم تغوص في اعماقه لتزيح كل رقته وو تحل محلها قسوة العمل.
و قدماه المهرولتان تكاد تسحق الاسفلت الذي افترشته كومة آدمية صامتة ... استوقفته محاولاتها المستميتة لاخفاء وجهها كأنها تقاوم عيون الناس لا المطر ...
أقترب منها ليصعد دلو صغير من بئر انسانيته, وبأخر نقطة رحمة في قلبه أمتدت يده في جيبه لتخرج محملةً ببعض النقود أسقطها في يدها كعارٍ يتبرأ منه ...
لكنها نظرت الي وجهه بعينين صبغتها الطيبة ... شاكرة اياه في هدوءٍ عمق احساسه بأنه منحها نقودا فمنحته حناناً...هرب منها مسرعاً... نسي او تناسي أمرها خلف غمام عمله ...
و لكن في طريق عودته رآها ...
متكومة حول نفسها من جديد في محاولة فاشلة لقهر البرودة حولها ... و الاثمال التي تستر جسدها بالكاد أنهكتها الامطار مع شمسٍ لم تزل تعاندها بالغياب ... ادراكها لصعوبة تحقق املها بالدفء يزيد من سخونة دموعها المتساقطة لتحتضن الاسفلت ...
مع ابتعاده محتضنا أوراقه اكثر و اكثر و خلفه المطر مايزال يصفعه ... هو و الاسفلت .
قرص ريفو

مد اصابعه المرتجفة ليزيح ذرات التراب عن المصحف و أشتياقه لاحتضان اياته بعينيه يحعل لهفته تنسي او تتناسي وصيته المفروض عليه كتابتها ...
أبتسامته الساخرة كعادتها علي كل شئ ... المتهكمة كعادتها علي كل شئ توارت خلف ابتسامة وليدة ... اكثر مرارة ...
ضم المصحف لصدره و هو يغالب وحشية انفاسه اللاهثة والتي تسابق عقارب الساعة ذات النهايات الثعبانية و التي احس بها تلتهم بدورها كل شئ ...
رافضا ما تخبره به نتيجة اليوم المعلقة علي الحائط ... ناقما علي نفسه ... متعبا من انفاسه .. قابضا بأصابع من زجاج علي القلم ... ضاغطا بقسوة علي الورق ...
وقلبه باردا كالموت حين يلملم بعبائته السوداء كل الاحلام الجميلة و المشاعر الطاهرة ...
ها قد اتت النهاية و لم يبق الا اسدال الستار ... انسابت دموعه كأنها تغسل آثام عمره كلها و قلبه الذي تذوق طعم الايمان تتصاعد دقاته كأنها تعزف لحنها الاخير ... لكن تصاعد صوت تليفونه المحمول كان اقوي ...
نظر اليه بكراهية ... ولم لا ... وهذا المستطيل الضئيل كان نديمه الدائم في منهل الموبقات ...
لم يكن يريد الرد ... لكن استمرار الدقات و اصرارها جعله يستسلم ... وضع الهاتف علي اذنه ... و استمع لصوت انثوي ...
- اين انت ؟! ... لن تصدق ابدا ... كل نتائج الفحص سلبية ... لقد وصلت للتو من أوروبا ... لا يوجد بك أي شئ ... ستعيش ايها الشقي حتي توارينا بأيديك التراب ... المهم ... هناك حفلة رائعة اليوم ... و اجسادنا تنتظرك حتي توارينا بيديك ... و لكن اشياء اخري...
لم يستمع لباقي حديثها الماجن ... أحس بقلبه يستعيد نضارة الشباب و حب الحياة ... تناسي كل شئ خلفه وهو ينطلق خارجا دون ان يهتم بشباك الغرفة المفتوح ...
و لا بذرات التراب التي بدأت تتجمع من جديد علي المصحف .

التعريشة الخشب
حقيبته تقوقعت داخل سيارته التي تركها منتظره إياه على بعد من مكان حبه القديم... التعريشة... لم يستطع التمهل حتى يصل إلى منزله بل جعلته لهفته يبادر بإلقاء السلام على مهد حبه أولا...
عيناه تدوران في المكان بنشوة افتقدها... سنوات عديدة منذ كان هنا...وكانت معه...يبثها حبه يدفئها في ليالي الشتاء الباردة...ترطبها أنفاسه في حر الصيف...لم يكن ما بينهما مجرد حبا...بل قصة منزوعة من صفحه الأساطير الغرامية.. جلس في المكان الذي كان يجلس فيه دوما قبل سفره الذي أرغمته ظروف الحياة القاسية عليه... و بدون مقدمات وجدها أمامه... في نفس اللحظة التي كانا يتواعدان و يتقابلان وجدها أمامه... مرتديه فستانا أبيضا ناصعا ... بعض الشحوب تمثل هالة حول عينيها لم يلق لها بالا..ربما من التعب ..هكذا فسر لنفسه دون جهد تاركا العنان لمشاعره المحمومة بالانطلاق بعد أن كبحت جماحها ساعات العمل الشاق في الخارج.
_ هل أحلم؟!
_و هل حبنا إلا حلما؟!
_ افتقدتك طويلا..
_ انتظرتك حتى تعود...
عيناهما تشكلان جسرا من المشاعر المتبادلة بينهما ..نسى أنه مرهق من ساعات السفر ... يكفيه أنه معها... و هذا هو الأهم... سنوات القلق التي جثمت على صدره و هو يعانى المشاق المادية و المعنوية و قلبه يلفظ حمم العاشق المحب مع كل زفرة ... يداه اللتان تتعطشان للارتواء من ملمس يدها توارت جواره..مازال خوفه القديم يعاوده... أأحلام اليقظة تأخذه أم واقعا ملموسا؟!... يريد مد أصابعه...يخاف النتيجة... قلبه لا يتحمل صدمه أخرى... يكفيه ما لاقاه...فتره من الصمت أبلغ من أي كلام مرت و مازالت العيون تشيد بينها جسرا متواصل المشاعر... أنها تنتظره ... مازالت له... و هو لم يكن أبدا لسواها... لم يستطع المقاومة اكثر...
مد أصابعه ليلامس أصابعها و يحتضن كفه كفها المتواري خلف ظهرها ... لكن صوتا من بعيد جعلهما يرجفان... و بعيدا عنه انطلقت... لم تكن تجرى ... كانت تطير بسرعة أدهشته...
رجع إلى سيارته و استقلها إلى منزله ...بالترحاب و الفرحة استقبلوه... سنوات الغربة نجحت في ألا يلحظ ما يخفونه عنه... إرهاقه الشديد جعله ينام دون أن يسأل ... أستيقظ على يد أمه الحانية تلمس خده ... قبلها و هو يعتدل مبتسما...أراد أن يقص لوالدته أحلامه بعروس أحلامه... و فاتنته...بقيه العائلة تريد الترحيب بك... لا يهمه ذلك الآن... لقد عاد بمال وفير يكفى لتحقيق حلمه و مراده الوحيد في هذه الدنيا... صارح أمه...وجمت....صدم...لكم باركت أمه حبه و هو يتحدث معها كل ليلة بعد رجوعه من ميعاد التعريشة...
لكن هذا كان قبل سفره...لم تغيرت يا أماه؟ !... دمعه حزينة انسابت من عين الأم ...قامت و غلقت الأبواب...ثم جلست قبالته و الشك ينهش قلبه مشكلا مع القلق سيمفونية صاخبة الأصوات...
_لقد انتحرت بعد سفرك بيوم واحد.
_أماه...هل تهذين ؟! ... انه هذيان دون شك... لقد كانت معي البارحة في نفس المكان ... ترتدى........
صمت و عيناه تجحظان فى هلع بتر عبارته ... كيف لم يلحظ ثوبها الأبيض؟! ... لقد كان ثوب زفاف... كيف حدث هذا؟ !... أمه تحاول تهدئه روعه... بعد أن سافر تاركا محبوبته وحدها ضغط عليها والدها لتزويجها من آخر ... و أقام المراسم رغم رفضها... فلم يكن بيدها للدفاع عن حبها إلا الانتحار... بشفرة حادة قطعت شريان كفها... نزفت حتى الموت...
_و التي كانت معي بالأمس؟!
الحيرة و الشك صارتا أشواكا تنغص قلبه... و تدميه ...الجواب يتضح في نظرات أمه المشفقة...لكنه لا يريد أن يصدق...
_و التي كانت معي بالأمس؟!
العبارة تتردد في صدره كأنها بئر قديم قد خلت منه المياه ... لا يمكن أن تكون قد ماتت... محال ... إنها تحيا...أنها تنتظره... لقد ضيع سنوات عمره ...أجملها ...من أجل هذه اللحظة ... و عند اللقاء...تموت؟!
_و التي كانت معي بالأمس؟!
تخاذلت أخيرا العبارة داخل صدره... تهاوت في قاع البئر...مشاعره المتدفقة المتلاطمة تكسرت فجأة ... بصوت لم يعهده في نفسه قط طلب من أمه أن تتركه وحيدا... حالته النفسية السيئة أجبرتها على عدم المناقشة... لبت رغبته... تخيل مرأى فتاته بالأمس...استبعد أن يكون حلما.. لا يوجد حلما بهذاالوضوح...رؤية كفها وحده كان يكفيه...عاودته الرغبة أن يلمس هذا الكف ...يحتضن أصابعه بـأصابعه... أنها تنتظره .. مازالت تنتظره... هكذا أخبرته بالأمس... وهو لن يخذلها هذه المرة أيضا
تكفيه سنوات الغربة و الشقاء و أيام البؤس و العذاب... لن يجعلها وحيده بعد اليوم... بسرعة أتخذ القرار ... بسرعة نفذه... شفره حادة بجواره لا يعلم من وضعها تكفلت بالمهمة ... لا يشعر بالألم... لا يشعر سوى بها تنتظره و على شفتيها ابتسامه رقيقه نال منها الشحوب قليلا... بادلها الابتسام... اقترب منها بهدوء و بسرعة لم يعتادهما في نفسه قط... تلاحمت أصابعهما... و نظرات العيون لها الكلمة العليا... تاركا حقيبته المغلقة كما هي ... متقوقعة في انكسار داخل سيارته الفارهة ... في الدنيا المادية القاسية.
عشر سنوات مرت... فتى و فتاه يسيران بالقرب من التعريشة الخشبية و التي صارت مزارا للعشاق... ترتعد كلما تذكرت ما يحكيه أهل البلدة من قصص عن شبحين يرتديان البياض يسيران كأنهما عروسان في ليله الزفاف كل ليله في نفس الميعاد...
فتاها يطمئنها محاولا بث روح المرح في قلبها بحديثه المعسول...
لم يكن يصدق هذه الشائعات...التفتت فوجدته يلامس كفها محاولا توصيل شحنات حبه لها ...لكن شيئا أخر شتت الانتباه...زاغت عيناها و هي تشير له ناحية التعريشة...هلعها جعله يلتفت مذعورا ليرى المنظر الذي طالما رفض تصديقه...
شابان في اللون الأبيض و الشحوب المعتاد يبتسمان لهما من بعيد...
مناجاتهما تذكره بقصائد الشعر..
لكن كفيهما المتشابكان .. ما تزالان تقطران الدم.


3 بانيو
بانيو 1
كعادته كل صباح عقب استيقاظه دخل ليأخذ حمامه اليومي ... جلس في البانيو و خواطره كلها متعلقة بمشاكل المياه التي لا تحصى ولا تعد ... منصبه الكبير يجعل الكل في خدمته طوعا أو كرها ... استطاعته أن يرفع هذا أو يخفض هذا جعلت له مهابة تثير الرعب ... و على الرغم من كل ذلك كان يخشى من أتفه الأمور ... مثل انقطاع المياه و هو يستحم... يخشى أن يشعر مثله مثل أي خادم عادى ممن يقومون على خدمته ... يخشى أن يتساوى مع أي بشري أخر حتى ولو في أمرا كهذا... و تطبيقا للقول الشائع بأن العفريت لا يظهر إلا لمن يخشاه... وجد ما كان يخافه... انقطعت المياه ... و متى ؟‍‍‍‍‍‍
وهو جالسا في البانيو لا يستر جسده العاري إلا الصابون الفاخر و الذي أخذت رغاويه في الانحسار..
- (ياله من مأزق لعين(....
هتف يصوت تعمد أن يسمعه كل من في قصره الرهيب ... صرخ معلنا الخبر الجلل ... تكهرب الجميع ... الباشا عايز ستحمى و المية انقطعت عليه ...أحس الكل بفداحة الأمر ووقع الكارثة ... توالت الاقتراحات ... مادام المية مقطوعة يبقى أكيد السخان فاضي ... لازم نحول ليه المية بأي شكل ... فكروا بسرعة... خادمة صغيرة بعفوية قالت :
- (أروح أجيب حله من المطبخ و أحول له فيها مية من البيسين و بعدين أسخنها له؟)
وافق الجميع فليس بيدهم شيئا أسرع... الباشا قد بدأ في الزمجرة و شرع يسب و يلعن في كل ما ومن حوله و يتوعد الجميع ... الباشا في أعلى درجات الغضب .... أخيرا أتت المياه ...
.....) أنا لازم اعمل تحقيق موسع عن الموضوع (...
صوته الجهوري أختلط بصوت ارتطام المياه على جسده مشكلا سيمفونيه سرعان ما انكسرت اسطوانتها و هو يكشف حقيقة الماء الذي أتوا به إليه... فكر أن يسب من جديد ... قبل أن يهتف توقف ... هناك شيئا ما في ذاكرته يتجسد أمامه ...شيئا قويا يخرسه...انه الماضي... و بصمت و باستسلام مضى يكمل حمامه بعد أن أتى بوعاء صغير ... و هو يبتسم في داخله... لقد مضت سنوات طويلة يعجز عن حصرها منذ أن أخذ حمامه بهذه الطريقة البدائية ... كان يجلس في الطشت بجواره الموقد يسخن الصفيحة المملوءة بالمياه أيام كان فقيرا... و قبل ما يصير أو يتخيل نفسه و قد صار ما عليه الآن من جاه و عظمه...لم ينس كم كان سعيدا حينذاك ...تنهد في عمق ... لم ينبس بكلمه بعد أن أنتهي ... تكفيه لحظات الذكريات الجميلة التي تدفقت في عقله ... لقد عرف حقيقته في البانيو.
بانيو 2
أنكمش الخادم المسئول عن تجهيز الحمام للباشا في مكانه وهو ينظر فى الوجوه ينشد الرحمة من عيونها القاسية...
-( أنت عارف أنت عملت إيه؟)
-( أيوة...جهزت الحمام لسيادته و .....)
-( و عارف أن المية انقطعت عليه وهو في الحمام؟)
- (ده مش ذنبي يا بيه ... أنا مش مسئول عن المية ...أنا مش مسئول عن السخان ... أنا بس.....)
- (أنت بتشتغل لحساب مين؟ .... مين اللي جندك؟)
تهاوت مقاومته تماما ... ماداموا فد وصلوا إلى هذا الحد فلا يوجد ما يمنعهم من شنقه لو لزم الأمر ... أو حتى لم يلزم....
لقد قرروا التضحية به ... يحاول الكذب على نفسه ... أخيرا سيكون ذا أهميه في موته ... و لن تكون حياته مجرد متخصصا في تجهيز حمام الباشا .... أستسلم لمصيره المحتوم... تهاوى وسط أياديهم الجافة ... و أختفي وسط ستراتهم السوداء القاتمة ....
أنتهي الأمر بسرعة بالغة ... ربما قبل أن يكمل الباشا حمامه... التحقيق أسفر عن أن المواسير قد أفسدت بفعل فاعل
أكيد هو الفاعل ... ولقد نال جزاءه.... ابتسامه عريضة بدأت في الارتسام على الوجوه وسط تنهيدة ارتياح لأدائهم واجبهم الوطني ... كما يجب.
بانيو 3
بخوف حقيقي تلفت حوله و عيناه تدوران بحثا عن أي مخلوق ... و عندما تأكد أن لا أحد يراه أسرعت قدمه الصغيرة بحمله إلى فراشه بسرعة الصاروخ... لم يكن يتصور أن الأمر سينتهي هكذا ... على الرغم من أن البداية نفسها لم تكن تنبئ بشيء ... لقد أخذ عدته و هيأ نفسه على الانتهاء قبل دخول الباشا الحمام بفترة كافية جدا ... و كما تعلم أخذ يفك كل توصيلات المياه بمهارة تناسب سنه ... و إن كان ساعده الضعيف لم يساعده في الانتهاء من عمله بالسرعة المنشودة... فكادت أن تحين لحظه المواجهة ... لحظه أن ينكشف كل شيء ... و يفتضح أمره... بسرعة بالغة أخذ يعيد كل شيء إلى مكانه ... لهفته لم تجعله يلحظ بعض التوصيلات الغير مركبه ... خرج من الحمام قبل دقيقة واحدة من بدء طقوس أخذ الباشا لحمامه ... لم تكن في مخيلته إي فكرة عن أثار البصمات أو غيرها ... كان ما يهمه ألا يراه أحد... أو يرى ما بيده... دخل الغرفة المفتوحة أمامه ووضع حقيبته فى المخبأ الذي أعده ... بدل ملابسه الغارقة في المياه بأخرى نظيفة جافة ...
طرقات الباب الذي أغلقه خلفه جعلته يرتعد أكثر ...طرقة ... اثنتان...أنفتح الباب بهدوء و أطل منه وجه خادمة صغيرة تبتسم ...
- ( الباشا الصغير يحب نجهز له آيه ع الفطار قبل ما يروح المدرسة؟(
بساطتها و رقتها أزالت كل خوفه و توتره ... مضى يعدد الأصناف التي يريد أكلها أو حتى يرغب مجرد رؤيتها على المائدة... وعيناه متعلقة بدولاب اللعب الخاص به يحاول الاطمئنان إلى أن أثار العملية قد تم إخفاءها بمهارة...
فقط تبقى أن يصارح والده الباشا الكبير أثناء تناول الطعام برغبته المستقبلية في أن يكون سباكا .

زحــــــــــف


خطواته بطيئة كسلحفاة ... متخاذلة كعواصف التراب التي شعر بكل ذرة فيها كيانا مثل كيانه المنكسر توا ... زحف علي الأرض ... مثله مثل الآخرين ... أنات صدره تلتهب في أتون اليأس و الإحباط ... هل هي النهاية ؟!... لا يهتم بالإجابة ... التفت ليري أذيال الخيبة ... شعر بها تبتسم ساخرة ناعية كل عمره الذي بذل فيه الجهد كل الجهد ... دون جدوي.
تغلبت ذكرياته الحزينة ... تهاوي أرضا و ركبتاه تعلن لذلك المارد القاسي الأناني هزيمته و الهوة الوحشية تلتهمه بلا رحمة ... العد التنازلي يستمر متهاويا و تستمر كراهية لا يعلم من أين أتت لتلفح وجهه ... عيونه الدامعة كانت آخر ما يملك رفعة ... رفع الرايات البيضاء ترفا لا قبل له به ... كل حروفه تقف في الحلق ... إن لم تتهاوى هي الأخرى في الهوة ... أحذية ثقيلة تتوالى ضرباتها علي رأسه المنهك بكراهية لم يدر لها سببا...
في اعمق أعماقه سقط ... شعوره بالوحدة و بواقٍ من الأمل ... أو ربما هي حلاوة روح ... امتدت أظافره تنشب الأرض ... ثقل جسده يزداد ... و يزداد معه الضغط القاسي ... عيناه تسقط لتري إلى أين ؟!... ما نهاية تلك الهوة ... لا مجيب سوي أنياب هزيمة تكشر بضراوة منتظرة إياه ...
سيسقط كورقة جافة سرعان ما تنضم لمثيلاتها مستكملة الزحف نحو المجهول ... زحف في الأعلى ... و زحف في الأسفل ... استغل طاقة الغضب داخله ليقاوم ... لابد من المقاومة ... تتلاعب به يمينا و يسارا أحزانه ... يستغلها كطاقة دفع لأعلي ... أظافره الدامية من الألم لم يعد يشعر بها ... جل همه كان الابتعاد عن البسمة العاتية ... عن الأنياب ... عذابا ما بعده عذاب ... و الأحذية الثقيلة تدفعه للسقوط أكثر و أكثر ...
قاوم بإستماته ... شعر بشيء يدفعه لأعلي فاستجاب ... فوجئ بجسده علي الأرض ... نجا أخيرا ... نظر خلفه بلهفة ليري تلك القوي التي دفعته ... صفعته بقسوة نيرانا تفجرت بأسطع الألوان حتى استحالت سماءا ترتج بغضبٍ تعلن عن انتحار يائس بتفجير نفسه قي ميدان عام ... حاول أن يقول أي شئ ...
لم يجد غير أن ينضم بسرعة إلى زحف التراب و طرف عينيه يلمح الأحذية الثقيلة تطارده من جديد باحثة عن ضحية جديدة .


العمر لذة

تغلبت أخيرا غيوم السماء الكئيبة علي شمس بهجته و تفاؤله ... تلوث قلبه بغبار الماديات جعله يصدأ منذ زمن ... ألوان الدنيا أمامه امتزجت مع بعضها البعض لتعطي اللون الأسود فقط ... كفه ترتفع ببطء كعادتها مؤخرا لكي يتأملها ... رغم بياض بشرته القمحية إلا انه أحس بالأحمر يصبغ كل جزأ فيها .. فصار المشهد كزهرة حمراء ... يكاد السواد في خلفيتها يطغي عليها بقتامته ... ترك نفسه لحمم ذكرياته تحمله بعيدا ... لأول صرخة انطلقت من فمه محتجا علي دخول الهواء صدره ... و الأيدي الثقيلة تربت بقسوة علي مؤخرته و تتلذذ بصراخه ... و منذ ذلك اليوم اعتاد ألا يصرخ ... ألا يبكي... اعتاد أن تقوم قبضته بالعمل كله ... ساعده في ذلك رحيل والده و إهمال أمه له ... و فشله في الدراسة رغم ذكائه الحاد ... و ببرود اخذ يشق طريقه في عالم الجريمة مقتحما بمهارة كل صنوفها ... وسامته الملحوظة أذابت جميع الأبواب أمامه ... استطاع أن يحفر اسما له رونقا في ملفات الانتربول تحت بند " مطلوب و بشدة " ...
لم تكبت له شهوة ... و لم يعجزه طلبا ... انساب كالطيف يفعل ما يفعل دون أن يسقط يوما... أو يرتكب ادني خطا يثير حوله أي شك ... منطلقا كجواد جامح لا يجرؤ المستحيل نفسه علي الوقوف أمامه أو التفكير في اعتراضه ... لم يبغ يوما مالا ... كان صفار النيران اكثر إمتاعا في عينيه من صفار الذهب... تشكلت حياته في ثلاث حروف ... الدال ... و الميم .... و الراء. و كعادة أي بشري... ارتدي عباءة الملل راغبا في البحث عن جديد ... أنهكه التفكير ... لم يكن يعلم مهنة غير القتل و لا هواية إلا مراقبة النيران ... لكنه اعتزل ... اتخذ قراره بالاستجمام و الراحة ... مضي شهرا أو يزيد ... قلبه يحاول الخروج من بوتقة الشر معطيا لجمال الطبيعة الفرصة النادرة لتطهره و لو قليلا... مشهد نيران التفجيرات أزاحه جمال غروب الشمس... و صوت طلقات الرصاص وجد في زخات المطر علي زجاج نافذته ما هو أعذب ... أدمن هدوء الليل و صفاءه و عقله يحاول نسيان ماضٍ لا ينسي ... و ...
ومزقت لوحة أفكاره أمام عينيه مشاهد لرجالٍ يركبون سيارة و يلقون منها المتفجرات داخل البيوت ... و هم يدورون بالسيارة كأنهم يتلذذون برعب الناس الذين استيقظوا علي الموت يدهم غرف نومهم ... السيارة تدور و تدور كأنها تثبت قوتهم ...و الناس القوا بأقنعة التحضر و اخذوا يتخبطون و منظرهم و هم يركضون فزعا من حوله حتى كادوا أن يدهسوه و عيونهم لا تري أي مأمن يحميهم من مخالب الموت العمياء ملأ قلبه لأول مرة في حياته بالاضطراب... لم يعط لنفسه الفرصة لكي يفهم لماذا ... الأسلوب و التنظيم و الإيقاع هو نفسه لم يتغير ... بصمة رفاق الماضي و توقيعهم علي كل ضحية أرسلوا روحها للسماء ...كان واضحا جليا... توقفت عقارب الزمن في لحظة ظنها هي حياته ... أو مماته ... َغضِّبَ ... ربما لأول مرة في عمره كله يغضب و يصل لهذه الدرجة من الاستفزاز ... كان دوما الصياد ... و عندما انقلبت الأدوار ليصير فريسة ... عجز عن تقبل المسرحية بشكلها الجديد ... يده تمتد لمسدسه الذي اتخذ منه رفيقا... طلقتان أصابتا خزان الوقود و الأخرى رأس السائق ... انفجار السيارة بما تبقي فيها من متفجرات جعل اللهب يكاد يلامس السماء... عدوه نحوها كأنه يرغب شيئا انتزعوه منه ... تأملها ... لم تعد شهوته لمشهد النيران المتراقصة تحرك فيه ساكنا ... الدماء حوله وسط سواد الليل جعلت من ذكرياته سياطا ... تأمل يده ... كم قتل بها و كم بطش... القي مسدسه في أتون السيارة ...
و ابتعد محاولا البحث عن مكان ٍ لم ترتوي أرضه بالدماء ... بعد .
ميدوسا
- - ما رأيك ؟
امتدت أصابعها لتعدل من وضع النقاب علي وجهها كأنها تتأكد من أن لا أحد يمكنه رؤية غير عينيها ...و بروح طفلة اختفت خلف نضج فتاة بدأت تداعب اسفل النقاب بان تلفه بسبابتها ....
أهذا هو رأيك ؟
أعطت لنفسها فرصة أخرى تستجمع فيها الكلمات ... لم تكن تريد إحراجه ... و في الوقت نفسه لم تكن تريده هو علي الإطلاق ... و الجمع بين الاثنين صعب ... لكنه لم يكن مستحيلا...
- أترغب في الزواج من فتاة لم تري حتى وجهها؟
أجابها بثقة :
- لا يهمني مقدار جمالك قدر ما يهمني أدبك و أخلاقك و ....
قاطعته بإشارة من سبابتها ... أحست به يسبها لا يمدحها ... أحست بكيانها كله يرتجف ... لقد تشبعت من رؤية هؤلاء الذين يقنعون الآخرين بما لم يقتنعوا به هم ...
- هناك دوما وجها آخر للقمر.
و دون أي تفسيرات لعبارتها تركته يضرب أسداسا في أخماس ... رحلت عنه دون جواب ... أخذت الطريق إلى مسكنها مشيا ... بنفس الخطوة الأنثوية التي تجمع بين الثقة و بين الرقة ... كانت تسير كنسمة متهادية ... و حولها عواصف هي مزيجا من الحنق و الغيرة في نفوس جميع زميلاتها ... و الرغبة في جسدها الرشيق المغطي كله بنقاب لا يظهر سوي عينيها في نفوس زملائها من الرجال ... و كانت هي تعرف كل ذلك .. و تزيد من صرامة عينيها ... عينيها التي لم تعرف غير الصراحة ... فيظهر عليها كل ما تشعر ... أخذت تتأمل الشوارع و البشر ... و ذكرياتها تئن عليها كمطارق عاتية ... طفولتها ... شبابها ... فقدانها لكل عائلتها ... اعتيادها الحياة بمفردها ... محاولاتها البحث عن عمل تقتات منه ... و محاولات إذلالها من اجل الحصول منها علي كل شئ ... مقابل لا شئ ... كراهيتها لكل البشر ... ولم لا و قد تعودت منهم القسوة ... و لا شئ غيرها ... تذكرت دموعها التي انسابت انهارا و هي تحاول بمفردها تدبير مصاريف دراستها و لا تستطيع ... تذكرت كم رجلا تقدم لطلب يدها بادئا كلامه بأسطوانة شفقة حفظتها عن ظهر قلب ... و ملتها لدرجة الكراهية ...
- هناك دوما وجها آخر للقمر ...
تمتمت مرة أخري بالعبارة و هي تتأمل صورة راقصة بالحجم الطبيعي تزين الملهي الليلي المجاور لمنزلها ... و تحملت التعليقات الساخرة من وقوفها و هي المنقبة أمام صورة راقصة شبه عارية تغطي عينيها بقناع اسود مزين بالذهب و ترفع إحدى قدميها كأنها مستعدة لان تخطو بها علي أي رأس مهما علا شأنه ... و بلا تردد ...
تأملت منزلها الخالي إلا منها ...لو كان والدي حيا ما كنت سمعت كل هذا ... لكن لا عائلة لي ... تمتمت بحزن و هي تتجه إلى المرآة بهدوء حاولت معه أن تلملم أحزانها ... خلعت النقاب ببطء ... وضعته جانبا ...ثم أخذت نفسا عميقا قبل ما تجهز نفسها للعمل ... بأن تضع أولا القناع الأسود المزين بالذهب .

هند
ضمت اصابعها بقوة حين مر عاشقان امامها يغترفان من بحر الحب ... عقلها يخترق الزمن راجعا لتلك اللحظات ... حيث كانا معا ... يسيران في نفس الطريق ...
ابتسمت ... مجرد التفكير فيه بعث الدفء في قلبها و أجري السعادة في شرايينها ...
كان وحده الصوت الذي مس سمعها ... كان وحده الحب الذي لمس كيانها ...
معه ... كانت اميرة يتوجها بمشاعره علي عروش الدنيا ... ويؤسس لعالم الرومانسية أركانا في عالم الواقع .

ضمت اصابعها بقوة وقدماها تحاول تذكر مكان خطوات اقدامه لتحتضنها بقدمها ... طريقتها في السير جعلت الهازئين يشيعونها سخرية ... لم تلق لهم بالا ... أو حاولت ...
حاولت تذكر الامس حيث كانت تمنح لمن حولها بمنتهي الكرم ما يفيض جبا و سعادة ... فيشبعون ... ولكن هذا كان في الماضي ... عندما كان يغترف لها الحب من مخزون قلبه ...
استمرارها في السير و تجاهلها جعلها مطمعا اكثر و اكثر ... اقتربوا منها ... ملامح الطيبة لم تنجح في ان يرحموا ضعفها ... اختطفوا حقيبتها ... فوجئت ...
تذكرت ان صورته بداخل الحقيبة ... صرخت ... ضحكوا ... زادت صرخاتها و هم يتقاذفون الحقيبة فيما بينهم ... آه لو كان معها ...
تهاوت اقدامها قهرا تحت اياديهم ... تهاوت ضحكاتهم و هم يلقون لها بالحقيبة ثم يذهبون ... اخرجت صورته ... احتضنتها بدموعها ...

ضمت اصابعها بقوة تاركة سبابتها المرتعشة تسير علي الخط الاسود المائل اعلي الصورة المبتسمة ... تأملها لأبتسامته جعلها تتوقف ... لحظات ثم ابتسمت هي الاخري ...
قامت و لملمت نفسها ...

ضمت اصابعها و هي تغمض عينيها ... ثم فردت كفها و هي تتابع السير و عقلها لا يسمع الا صوته في اذنها ... فتزداد ابتسامتها .

أن تكن أنت
1 - كيان :
فتح عينيه ... و لثوان ظل نور الغرفة يغرس أشواكه في عينيه حتى اعتاد عليه ... اعتدل في فراشه ... اعتصر فكره محاولا مقاومة فراغا بدا له كبئر عميق يغوص فيه ... و بين جنبات البئر تقلبت أسئلته ... أين أنا ... من أكون ..
- أنت صحيت يا بطل .
رغم رقة صوتها إلا انه التفت لها بحدة أجفلتها ... و رغم ذلك تمالكت نفسها كمن اعتادت المفاجآت ... و ابتسمت ... تأملها في صمت ... فتاة حسناء ترتدي الزي المميز للممرضات ... هو في المستشفي إذن ...حادثا علي الأرجح ... و لكن لماذا ؟!
و كيف ؟!. ... تكرر السؤال في ذهنه ... من أكون ... هل افقدني الحادث ذاكرتي ؟!... ترتبت أفكاره بسرعة خلقها إحساسه بالخواء ... وبأنه لا يملك نعمة الماضي و ترجم لسانه في الحال ما يفكر فيه ..-تعرفي أنا مين ؟!... حافظت علي ابتسامتها متلألئة و هي تقول بفخر .. :-أنت البطل ...
نظر لها كمن يرغب في إيضاحات اكثر ... لكنها سألته في اهتمام :- -أزاي عضلات صدرك دلوقتي ؟!... و أخبار التمزقات إيه ؟!...
سؤالها جعله يأخذ شهيقا شعر به يملا صدره .. كل صدره ...و ... يصل إحساس الألم إلى الدرجة القصوى .. آلاما رهيبة غطت بصوتها علي أي صوت ... امتدت يده تتحسس صدره ... أزعجته الضمادات التي تلتف حوله ...لمسته بحنان : --ما فيش داعي تجهد نفسك ... أسبوع بالكثير و مش ح تحس بالآلام دي مرة تانية ... الحادثة ما كنتش سهلة ...
نظر لها و العرق الغزير يكاد يمنعه من الكلام ... ابتسامتها لا تبغي عنها استقلالا ... أرادها أن تتحدث اكثر ... لكن اصابعها امتدت بمهارة لتغرس في ذراعه محقنها ... تاركة المخدر يسري في دماءه بهدوء ... و كل ذرة في عقله تذهب إلى عالم اللاوعي ... وسؤال واحدا يطرق لسانه و تردده شفتاه ... -أنا مين ... أنا مين ...ثم غاب عن الوعي تماما.
2 - اسم:
هذه المرة لم ينطلق عقله للبحث عن أي تفسيرات ... بل انشغل فور استيقاظه بصورة فتاة تم وضعها بجواره ... و بجانب الصورة وردة حمراء ... امسك كلاهما بأصابعه ... عيونها تحتضن عينيه فتجبره ان يغوص داخلها برفق و دعة ... و تجعله يرتاح و يطمئن ...
-أخبارك إيه دلوقتي؟! ... و كأنه يحلم ... كانت هي ... و اقتربت منه ... و أمسكت أصابعه بأصابعها ... و تناولت الوردة ... رفعتها لتقبلها ... ثم اعطتها له ...
- ما قولتليش ... أخبارك إيه دلوقتي؟!
ابتسمت عيونه ... فقد كل رغبة أن يتحدث ... فقط ... ينظر لها تاركا قلبه يعزف سيمفونية السعادة ... -يعني عايزة يكون معاه ملاك زيك و يفضل تعبان ...
رفع رأسه ليري وجه امرأة تنطق الطيبة من كل تقاسيم وجهها ... و اندفعت الفتاة نحوها بفرحة تشوبها لمحة خجل و هي تقول : - ماما ... ازيك ... وحشاني قوي ...
احتضنتها الأم ف حنان ... و هي تتأمله في سعادة ... و تقترب منه في هدوء... كم يتمني ان تكون له ام مثلها ... لكن ... -انتو مين؟!
تفجرت قنبلته مدوية ... نظرا له غير مصدقتين انه بالفعل يجهلهما تماما ... و يجهل علاقتهما به ... لقد خمن أن الأولي خطيبته أو زوجته ... ولكن ماذا عن الثانية ؟! ربما كانت أمه ؟!
دموعهما انسابت علي الخدود كأنها ترفض التصديق ... لكن رغبته ان يعرف من هو جعلته يرتفع بصوته اكثر عسي أن يقفز فوق موجة مشاعرهما تلك :
-أنا مش عارف انتو مين ... ولا أنا ابقي مين ...ولا إيه اللي جابني هنا ... حد فيكو يقول ليا أنا اسمي إيه ... و لكن صدمتهما كانت اعلي صوتا .
3 - كراهية:
-يعني أنت مش فاكر أي حاجة خالص ؟!
بحركة عصبية سحب يده من أصابع الدكتور التي تقيس نبضه و هو يهتف بغضب :- كام مرة ح أقول لك يا دكتور أنى مش فاكر أي شئ ...
ربتت الأم علي ظهره بعطف يكفي الدنيا و يزيد ... فهدأ قليلا .. و نظرت الفتاة الي الدكتور متسائلة :
- ممكن يا دكتور تفهمنا هو عنده إيه بالضبط ؟!
أخذ الدكتور نفسا عميقا قبل أن يجيب :- -ما فيش أي مشاكل عنده ... هو ح ترجع ليه الذاكرة بكل بساطة لكن واضح إن الصدمة شديدة ... بالذات علي أعصاب المخ ... فهو دلوقتي في فترة راحة ... يعني كلها كام يوم و يرجع ليكو زي الأول و يمكن احسن ...
-و أنا ؟!...نظروا جميعا له و الأم تقول : - انت ؟!... أنت إيه.؟!... -أنا ح أروح فين ؟!
نظر له الدكتور في دهشة و هو يقول :- تروح فين يعني إيه ؟!... ما هو أنت ... تبقي أنت ... و ح تبقي أنت ...
صمت ... نظر إلى الدكتور كمن ينظر إلى جلاده ... بكل بساطة وقع حكم بإعدامه ... بكل برود ذبحه ...عندما ترجع له ذاكرته لن يكون هناك ... سيكون بكيانه الماضي .. . إنسانا له ماضي و له مستقبل ... لكن ليس له أي وجود حالي ... كأن كيانه الحالي هذا لا يهم ....أو لا وجود له ...
اطرق برأسه مفكرا بعد انصرافهم ... هل يستسلم ؟!... لا ... انه موجود ... و لابد أن يدافع عن وجوده هذا ... لابد أن يدافع عن كيانه ... مادام له كيان ... و لكن القرار صعب ... هم يريدون شخصا ما ... شخصا لا يحس نحوه بأي ألفة أو محبة ... بل علي العكس ... لقد عرف منهم الكثير عن ماضيه ... و كل لحظة تمر يجد نفسه حاقدا أشد الحقد علي ذلك الماضي الذي يمتلك حوله كل هذا الحب ... و هو لا ... لا يملك أي شئ ... لا تاريخ و لا حتى اسم ... لم يهتم أحد بأن يعطي له اسما .. كأنهم اتفقوا جميعا علي حكم الإعدام ... و بقيت لحظة التنفيذ ... و بدأت كراهية ما تبذر بذورها في قلبه ... و يقترب موسم حصادها في كل ثانية تمر عليه ... هو لا يريد أن يموت ... ليكن ما يكون ... لكن من حقه أن يحيا ... هو يريد أن يحيا ... فلماذا يعملون بكل همة علي أن يموت ؟!
انهم يكرهونه .. فكيف يحبهم ... لكنه اكثر براءة منهم .. علي الأقل ...هو لا يعمل علي إزهاقهم روحهم .
4- حياة:
-أنت ليه بتعمل في نفسك كده؟
سألته الممرضة هي تجلس معه يراقبان غروب الشمس من شرفة غرفته بالمستشفي ...
نظر لها بصمت و قلبه يحاول كتم انفعالاته حتى لا تجد لها منفذا علي وجهه ... جاهد كثيرا لكي يرسم ابتسامة علي وجهه:- -أنتي شايفاني بأعمل إيه ؟
ترددت قليلا ... ثم أخذت قرارها ... بأصابع هادئة مست وجهه و هي تقول بحنو :- أنت بتموت ...
أستسلم تماما لأصابعها ... ربما ارتياحا لوجود شخصا ما يشاركه مشاعره التي يرفضون الاعتراف بها ... ربما وجد لنفسه كيانا جديدا في نفس أحدهم بدلا من كونه حياة احتياطية أو ترانزيت لحياة أحدهم ... لماذا يضحي بنفسه ؟!من أجل ماذا ؟!... و هل يستأهل هذا ال " أحدهم " هذه التضحية ؟!اقتربت بشفتيها ... وكل ذرة في جسدها ترغبه و تشتهيه ... و كيف لا و هو البطل ... بطل أحلامها ... ذلك المثال الحي لعنفوان الرجولة و الشهامة التي طالما حلمت به يحتويها بين ذراعيه ذات يوم ... و ها قد أتي ذلك اليوم .. .و صار حلمها بين ذراعيها وليدا يبغي أحضانها مهدا ... ما هي إلا لحظات و يوقعا بالشفاه عهدا مقدسا مدي العمر ... وامتدت ذراعها تحتضنه مكتفية ولو بلحظة من العمر تشعر فيها أنها هي ... وأنها أنثى ... و أن حلمها الذي عاشت لأجله قد تحقق أخيرا ...
و انطلقت بقلبها في سماء أخري و في دنيا أخرى و هي تتغنى كلما اقتربا اكثر و اكثر :
- المهم أن يتحقق ... لا أن يستمر .
5-حرب:
- لا ...
صرخت الفتاة بغضب و هي تقتحم الغرفة منتزعة إياه من بين ذراعي الممرضة التي عضت شفتيها بمرارة و الحلم تراه بعد أن تراصت سنواته يتهدم في لحظة واحدة ... نظراته الغاضبة و الحانقة أدهشتها ... ربما اكثر من دهشة الفتاة التي كانت تتوقع منه خجلا ...أو انكسارا ... كانت تتوقع منه طلب الصفح و المغفرة ... لكن مبادرته لها بالهجوم فاجأها حقا ...-انتي بأي صفة بتفسدي لحظة سعادتي؟!... -أنا حبيبتك ...!!... -و أنا مش بحبك !
و كأنه صفعها بعبارته ... تراجعت و الصدمة تنسج حولها خيوطها المتشابكة الثقيلة ... شعرت كأنها تقف علي حافة هاوية و اليد الوحيدة التي يمكنها انتشالها ... تمتد إليها بقسوة لكي تدفعها للسقوط ... عندما خلع من أصابعه دبلتها ... و أعطاها إياها ... بالفعل تهاوت علي اقرب كرسي ... و عيناها تحاول ان تصدق ما تري ... الشكل نفس الشكل ... الصوت نفس الصوت ... لكن هذا الشاب غريبا عنها ... العقل غير العقل ... و القلب غير القلب ... لم يكن ليهينها علي هذا النحو أبدا ... ومن اجل من ؟!... من اجل أخري تقف و ابتسامة تشفي و انتصار ترتسم واضحة جلية علي وجهها ...
و لم لا و إحساسها بأن حلمها الذي ذاب يتشكل مرة أخرى ... و تنهار الفتاة تماما و هي تراهما يقتربان أمامها ليكملا ما بدءا إياه فتغمض عينيها رغم سخونة دموعها و قلبها ينتفض علي صوت القبلات و الأنفاس الشبقة المحمومة .
6 - صمت:
-آنت أكيد اتجننت ...!!...نطقها الدكتور وهو يهز رأسه في قوة كمن لا يصدق ما سمع .... لكنه بحدة أجاب :--اتجننت عشان باطلب إثبات شخصية جديدة و بأسم جديد ؟!
رد عليه و أعصابه تشتعل :--و أيه لزمتها ... ما انت عندك شخصية موجودة بالفعل و كلها كام يوم و ....
-إياك تقولها ... أنا بأتكلم عن اللحظة اللي أنا عايشها دلوقتي و ما ليش أي دعوة بالماضي ...
بدا الفشل في تمالك أعصابه واضحا و الدكتور يقول :-عشان كده قلعت الدبلة بتاعتها ؟!
فهم الي ماذا يلمح في عبارته فقال :-أنا ماعرفهاش ... لا أنا بأحبها و لا فاكر اني ف يوم حبتها ..
قاطعه الدكتور :--بس انت جبت لها انهيار عصبي حاد ...
رفع كتفيه قائلا ببرود:- -و أنا مالي ...
-لأ... مالك و نص..
اقتحم الغرفة رجلا كبير السن يتسم محياه بالحزم ...و نهض الدكتور أحتراما له ...
-أهلا بيك يا حاج ... المستشفي كلها نورت ..هز الرجل رأسه شاكرا الدكتور علي مجاملته ... ثم استدار ناحية الشاب قائلا بصرامة :--انت لما جيت تطلب أيد بنتي وعدتني انك عمرك ما ح تأذيها ... و عمرك ما خلفت أي وعد وعدته ... لكن اللي حصل ده مالوش أي تفسير ... هي الحادثة كانت جامدة قوي كدة ؟ ...
أسرع الدكتور قائلا :- دا فاقد الذاكرة يا حاج ...
التمعت عينا الرجل تأثرا ...و اختفي كل الغضب في لحظة واحدة و يده تمتد لتربت علي ظهر الشاب بحنان و أبوة :- ماعلش يا بني ... كلها كام يوم و كل شئ يرجع لأصله ...
- كفاية بقي ...انطلقت صرخة الشاب تشق دفء العواطف , و هو يكمل كمدفع رشاش :- انتو ليه عايزين تقتلوني ... ليه عايزني أموت ...
اندفعت الممرضة تحتضن آياه و هي تقول :- حرام عليكو ... سيبوه يعيش ... علشاني ...
هتف الدكتور في دهشة :-نقتله ؟! ... عاوزينك تموت ؟! ...ايه الكلام الفارغ ده ؟1 انت هنا عشان نعالجك موش عشان نموتك ... و انتي ايه اللي بتقوليه ده ... انتي كده بتا خدي حاجة موش من حقك ... انتي كده بتستغلي مرض إنسان ... و ده بيخالف طبيعة مهنتك ...
أشاحت بوجهها في غضب و عضلات وجهها تتنافر في قوة ... و امتدت يدها تمسك ذراعه و تحتضن أصابعها أصابعه كمن يستمد منها القوة ... و هو أيضا ... لقد قرر أن لا أحد في هذا العالم يرغبه مثلها ... لذلك فهو لها ...و لها وحدها ... مهما يكن ثمن ذلك الاختيار ...
تنقل الرجل بينهم و عيناه تؤكد أن الزمان عندما حفر التجاعيد في وجهه لم يكن يفعل ذلك عبثا ... جلس و ذراعيه المتشابكتان تنضم لصدره كمحاولة منه لتهدئه أعصابه أولا ... و رويدا رويدا بدأت الغيوم تنقشع ليفهم كل شئ ... كل شئ .
7- إيمان:
-أنتي بتحبيه للدرجة دي ؟!...سألها الرجل في هدوء امتص الكثير من انفعالها الغاضب ...
-أكثر من نفسي ...ردت بحسم ... لكنه سألها بصوت بدا لها مثال للحسم نفسه :
-بتحبي مين ؟!...و دون أن ينتظر إجابتها اكمل :- بتحبيه كأنسان من أول حياته و لحد أخر نقطة مشيها في الحياة دي ... و لا بتحبي إنسان و هو ماشي ف طريق حياته وقع في حفرة .....أه ممكن يستني في الحفرة شوية ... لكنه أكيد ح يقدر يطلع منها و يكمل طريقه إللى كان ماشي فيه ... انتي بقي عايزة تفضلي معاه في الحفرة دي علي طول ... لكنه موش ح يفضل ليكي ...لأنه ح يكون شخص تاني ... شخص ح يتنكر ليكي و يرفضك ... لأنك سرقتيه ...
كلماته الصارمة طرقت خلايا مخها و اقتحمته رغم محاولاتها ان تقاومها ... أنتصر عليها بمنطقه ... التصقت بالشاب أكثر و أكثر ... هو أيضا لم يعد يعرف هل هو علي صواب ام خطأ...
لكن عناده مازال يعميه ...-برضة لأ...إحنا بنختار مصيرنا إحنا ... و بإيدينا ... موش المصير اللي عايزينا نكونه ...
رد عليه الدكتور :-- يا بني المصير و المستقبل دي حاجة بتاعة ربنا ... ولو أنت عايزنا نتعامل معاك كعدو احتل جسم موش بتاعه عشان يفضل فيه و ياخده من صاحبه الحقيقي ... ف إحنا موش ح نسكت ... لكنك ناسي حاجة مهمة ... إن الجسم ده جسمك إنت ... وإنت لسه إنت ... رغم إن فيه جزء عندك ضايع ... اللي هو الماضي ... لكنك لسة إنت ...
- لكني موش حاسس بكده ...!
-علشان عايز ترفض كده ...
و رمق الممرضة بنظرة جانبية و هو يكمل ...:-ولقيت اللي يساعدك في الرفض ده ...
-انا بحبها ..و ناوي اني..
قاطعه الرجل بنفس الصرامة ...:- لو بتحبها صحيح كنت تخاف علي مستقبلها ... موش مجرد تعشمها بأي كلام أنت عارف انه موش ح يكتمل ... حب مالوش مستقبل ... هو حب ميت .... يبقي ده حب ... ؟! ... الحب حياة ... مش موت .
صرخت بلوعة :- -أنا راضية ...
رد عليها :-متهيألك ... ممكن عشان عايزة حب... نفسك ف حب ... لكن مش معقول يكون هو ده الحب اللي حلمتي بيه طول عمرك ...
أجهشت الممرضة بالبكاء و كما اندفعت في دخولها اندفعت خارجة من الحجرة ...و كادت أن تصطدم بالأم التي دلفت إلى المكان بهدوئها المعتاد و عيناها تحتقنها الدموع ...
-عامل إيه دلوقتي ؟! ...نظر لها و لسانه يتمرد علي الكلام ... لكن عيناه تكتبان الرد ...
-الحمد لله يا حاجة ... كل حاجة ح تكون تمام ...رد الدكتور بابتسامة ... و استطرد الرجل :
-الحمد لله علي كل شئ ... وهي مسألة وقت وربنا يشفيه ... ماعلش ح أستأذنك عشان أروح أشوف بنتي ...
لكن صوتا رغم رقته الا انه دوي في قلوبهم كلهم :- ما فيش داعي ... أنا هنا يا بابا...
و امتدت العيون ايادٍ تحتضن الفتاة التي دخلت بوجهها الشاحب كسماء امتلأت بالغيوم ...
8- ختام:
- إيه اللي خلاكي تقومي م السرير ؟!
- كان لازم أجيب له دي ..
.و تعلقت العيون بأصابعها الرقيقة و هي تمتد بمسبحة بيضاء أسقطتها في يده ...تأملها هو كثيرا .. و أصابعه تحتضن المسبحة .. و بحنانها المعتاد قالت الأم :-و الله جيتي ف وقتك ... قوم يا بني ... انت فعلا محتاج تصلي ركعتين لله.
نظر الي امه ... ثم نظر الي الفتاة التي بادلته النظرات في خجل من والدها الذي لاحظ ذلك فأبتسم في حنان ...: - انتي اللي جايباهالي ؟!... بعد كل اللي عملته فيكي ؟!..
نظرت لوالدها أولا ... و عندما وجدت ابتسامته تشجعت و قالت :- جيباها للإنسان اللي قلبي حبه ... و القلب اللي يحب ... مستحيل يعرف يكره ..." القلب اللي يحب ... مستحيل يعرف يكره "....
تأرجحت العبارة في عقله و هو يشعر بالاضطراب و الارتجاف ... بالفعل هذا المكان ليس له ... لا يستحقه ... ماذا فعل هو كي ينال كل هذا الحب ؟!... ماذا أعطي ؟!... لا يمكن أن يكون هو الشيطان الوحيد وسط كل هؤلاء الملائكة ... لابد ان يعيد لهم من احبوا ... لا من كرههم ... و لم يبادلوه كرها بكره ..
شعر نفسه يتضاءل أمامهم ... فقد كل رغبة في الحياة ... أحس أن نعمة الوجود اكبر منه ... قام من مكانه ... قدماه تثاقلتا حتى كادت تعجزان عن حمله ... اتجه إليها ... أعاد إليها المسبحة ... ثم ترك نفسه يهوي عند أقدامهم و عيناه تدوران بسرعة تسجل مشاعر الحب في عيونهم ... و التي وارت كل مشاعره ...و ينفجر جرحا في مؤخرة رأسه قاذفا بقعا سوداء من الدم ...إغماءه بسيطة ثم فتح عينيه ... إشراقة وجهه تلألأت في وجوههم ... احتضنت عيناه عيونهم و كلما زادت فرحتهم كلما ازدادت عينه تألقا ... و التصقت عيناه أخيرا بعيني فتاته ... غاص فيعها حتى الأعماق ... و هي كذلك ... ارتمت بين يديه تقبلهما و هو يسألها باهتمام حقيقي :
- انتي بخير ؟ّ
و التفوا حوله تاركين أقدامهم تسحق الدماء السوداء لكيان أدرك ثمن رغبته ...بأن يعش انت ...
بأن يكن انت .

سركي معاش
يستطيع والدي معرفة مدي رغبتي في الذهاب الي مكان ما او رغبتي عنه مهما كانت اسباب اصطحابي اليه ... كأن قدمي تكتب خطواتها رسالة بلغة مورس لا يستطيع احدا ترجمتها اسرع منه ... و لكنه و منذ كنت صغيرا امسك اطراف اصابعي في حنان ليوجهني الي طريقي مثله مثل كل الاباء الرافضين لنمو اولادهم امام عينيهم كان الزمن لا يجرؤ ان يمر الا بأذنهم . وحذائي يحتضن الطريق المترب غارفا بعض الغبار فوقه للذكري ... مثلما كنت افعل في صغري ... ارتفعت عيني بسرعة قبل دخول مكتب البريد لتبحث عن حديقة صغيرة كنت احمل اليها البذور كل شهر لتبتسم في وجهي باللون الاخصر الشهر التالي ... و لكن الزمن الذي مر فجعلني انسي او اتناسي انني كنت صغيرا هو نفسه الذي عصف بالحديقة الصغيرة فحول لونها الاخصر الي لون ترابي كئيب . جاعلا طفلا صغيرا يعبث بخفر الارض بقطعة حديدية دون سبب ... حتي و رأسي تلتفت لتري داخل المكان صدمت بكم الزحام الذي شكله طابور الرجال و الذي انطلق ابي اليه ليغوص فيه باحثا عن صديق يقحمه في الطابور الذي اخذ يلتف كقطار افعواني قبل ان يضيق المكان فيكتمل الطابور خارج المكتب ... و طابور النساء و الذي تقف فيه كل الاعمار من عجوز تعدت التسعين بقليل و رغم ذلك تحاول مقاومة الدفعات القاسية و التي تكاد تقذف يها خارج الطابور بأنات عالية عسي ان يستيقظ ضمير احداهن ...و طفلة صغيرة لم تستطع امها او جدتها الغوص في هذا الصراع فآثرت السلامة جالسة علي الارض مفترشة ورقة من جريدة ممزقة حتي يحين دورها في صرف المعاش .
احاول فتح الشباك القديم ليجدد الهواء الذي خنقته ادخنة السجائر ... يستعصي علي ...يخترق سمعي صوت هيكل عظمي يحتضر ...يسير علي عكازين رغم امساك شاب يافع به:
- انا اهوة ... آآآه ... انا اهوة .
يهتف الموظف الشاب و الذي يقاوم نظراته الفضولية لبذلتي بالنظر في دفاتره المتراصة امامه :
- بالدور ...
ليقاطعه صراخ الشاب :
- مانا خرجت م الدور علشان اجيبلك ابويا ... عايزني اوقفه ف الطابور تاني عشان يروح فيها ؟!
ترتفع الاصوات:
- لو للعشا انا قاعدة ... ماواريش حاجة ... لا جوز و لا ابن ...
- ماعلش خده قدامك ... عضمة كبيرة برضة ...
- ياعم و انا مالي ... مانا واقف م الساعة سبعة الصبح ...
يقطع الاصوات خروج الموظف القائم بالصرف حاملا كرسيا معدنيا ليضعه كفاصل بين الطابورين ... متوعدا من يقف امامه أو يزيح الكرسي بتوقف عملية الصرف تماما ... تستعطفه العيون قبل الاصوات ... عاد لمكانه مستكملا عملية الصرف ببطء ملحوظ ... رغم ان عينه ماتزال تختلس النظرات لي ... الا ان عيناي كانتا تدوران في المكان كله ... ثم تعود و تحتضن الكرسي ...
- يا عم ميعاد قبضك مش النهاردة ... تعالي في ميعادك الاسبوع اللي جاي ....
و لكن الرجل لا يتزحزح من مكانه ... حتي كدت اظنه مات ... لكن صراخه المفاجئ بما لم افهمه و لم يفهمه احد ثم صمته تماما ... ابتسموا من مواصلته الوقوف مكانه جاعلا من نفسه حاجزا بين الطابورين ...
- انا ماباشوفهمش بعيني ... من ايدين الصراف لايدين صاحب البيت الله يخرب بيته ...
- بالدور...
- للعشا انا قاعدة ... ماواريش حاجة ... دي الحنية من عند ربنا مش من عند حد ...
- بالدور...
- و هما بيعملوا ايه الكام ملطوش دول ف الزمن ده ...
- بالدور...
- الختم بتاعي وقع ...
- بالدور...
- واقفين م الساعة سبعة الصبح...
- بالدور...
- اعدل الكرسي مكانه...
تتجه نظرتي ناحية الكرسي تلقائيا لاجد يد ابي تربت علي كتفي و اليد الاخري تحمل نقود المعاش الخاصة به:...
- ياللا ... خلاص ...
و كعادته يسحبني من اطراف اصابعي ...و كعادتي استسلم تماما له و اتجه معه الي الباب ... ولكن دافعا ما داخلي يجعلني انظر لمكان الكرسي ...لكن الكرسي لم يكن موجودا .

حالة تحرش
لا اعرف ان كنت قد نمت ام لا ... فلا فارق اجده بين ما اراه في كوابيسي و ما اراه في الحياة ... قمت من السرير للحمام ... ارتطم الماء براسي كأنه يغسل كل افكاري ... يغسل ذكري تخرجي و حصولي علي الشهادة الجامعية ... يغسل محاولاتي للعمل في نفس مجال تخرجي ... يغسل فشلي ... انتهيت من الوضوء ... صليت الصبح .. وانا ساجد اقتربت من رأسي نملة صغيرة ... تركتها ... صعدت جبهتي ... لم اجد بد من سحقها بين رأسي الساجد و بين الارض الخشنة ... الافطار مع امي حيث يصير للطعام مذاقا ... اصرارها الغريب علي ارتدائي البدلة ... امي الا تعلمين اين اعمل الان ؟... بأسلوب الامهات الديمقراطي اقنعتني بأنها ستموت فجأة اذا رفضت لها طلبها ... امسكت البدلة ارتديها و سط تمتمات والدتي المعتادة بالبسملة و الحوقلة و الاستعاذة من شر عين الحاسدين ... انظر لأمي مليا ... ذاكرتي تسترجع الليالي التي كانت تسهر بجواري حتي انتهي من مذاكرتي ... دعواتها لي بالنجاح ... و دعواتها لي بأن اجد عملا افضل ...انظر الي الارض ... ثم اقبل جبهتها و انطلق خارجا ... اري الاتوبيس ... احشر نفسي فيه لا مباليا بالبدلة التي تخفي تحتها ملابس العمل ... تستكمل امي دعواتها من شرفة المنزل حتي يسمعها كل الجيران ... يزدحم الاتوبيس اكثر ... صوتا يناديني ... ياااه ... منذ متي و عيني لم تحتضن ذلك الوجه ... يسألني عن احوالي ... انقل الكرة في ملعبه سريعا ... لا يوجد عندي ما يقال ... انطلق هو معددا لي مزايا عمله و كم يقبض منه شهريا ... اقارن بين حاله و حالي ... هو الطالب الفاشل الذي كان يعاني كي يحقق مجرد النجاح ... و حالته الان ... الكرس بجواره قد خلا ... بسرعة و ثقة يجلس و يشد ذراعي ليجلسني بجواره ... سيارة تطلق كلاكسا يزعجه فيسب سائقها رامقا اياه بأحتقار قائلا :- رغم انه يجلس في سيارته الخاصة الا انني كراكب اتوبيس اجلس في مستوي اعلي منه ... ابتسم لمنطقه الغريب ... يبادل ابتسامتي بلهجة المعلم ... و لم لا ... و انا في نظره لا افهم شيئا ... لا افهم كيف تسير الدنيا ... و كيف يجب تأديب هؤلاء الاوغاد ... و لا كيف يمر الفيل من تحت ذقني و لا اعرف تعميني طيبتي ...
و لا كيف ان هذه الفتاة التي كانت زميلة لنا يوما و التي تصعد الاتوبيس الان و هي تمازح الجميع و تنشر البهجة في نفوس من حولها كيف انها اتخذت مسار الخطيئة ... امط شفتي ...ان بعض الظن اثم ... يستكمل حواره ... انت الذي لا تدري كيف يأتي المال في هذا الزمن .. يتصاعد صوت الكاسيت عاليا لميكروباص يمر بجوارنا ... أتحب اثبت لك ... انظر لها و هي تميل للامام و الخلف بأستسلام و نشوة لمن يمر متحرشا بجسدها الشهي ... نظرت لعينيها ... تفاؤل و اشراق و طيبة تمتزج في ابتسامة علي شفاه تمطها ببعض الغيظ ... سأريك ... لحظات و اتفق معها علي قضاء الليلة معي ... امسك به ... لا تفعل ... يرد ساخرا ... و لم لا افعل ؟!... ألست احمل نقودا ... من حقي ان افعل اي شئ ... دعني فأنت لا تعرف كيف تسير الامور في هذه البلد ... احنقني رده ... و انا الذي كنت سأسأله لماذا يركب الاتوبيس ... في ثانية واحدة اختفي من جواري ... لااعلم ماذا سيفعل بها ... ابتسامة عينيها جعلتني اتابعها و انا رافض تماما تصديق اي شئ مما قاله عنها ...لمحت لون قميصه بجوارها ...اردت ان اصرخ ... اردت ان افعل اي شئ ... اردت ان احذرها من هذا الوغد ... اردت ان استجد بعينيها و اقسم عليه بروح ملائكيتها ... لكن العينان جحظتا بغضب و هي تلتفت في عنف ... ثم تميل قليلا و عندما اعتدلت كان حذائها في يدها تشهره كمن سيعزف سيمفونية صاخبة ... زميلي الذي استدار لكي يشهد لحظة انتصاره لم يجد سوي ضربة قوية مفاجئة علي رأسه القت به خارج الاتوبيس المنطلق ... ارتطم جسده بالارض و تدحرج بعنف ... لم الق له بالا ... امتدت اصابعي تفك ازرار البدلة و عيني تتابعها و هي تعيد ارتداء حذائها ... و في عينيها دمعة مازال يتلآلآ فيها الغضب ... لكن هذه المرة ... كان الجميع يفسح لها المكان .

لغة الواو

ستراها و هي تحاول ايقاف شلالات الدموع من عينيه بأحتضانه اكثر و اكثر و ستدفعها بكتفك لامباليا محاولا اخذ مكانها و انت تشق طريقك في الزحام داهسا الرصيف الاسمنتي الضيق و انفاسك تجعل ذلك الجزء من الكوبري قطعة من جهنم ... و لن تهتم بيدها التي خرجت خالية تماما من جيبها و لن تشعر مثلما شعرت باليأس ... فما جدوي محاولاتها لتوفير نقود المواصلات مادام الصغير لن ينال اي احساس بالشبع ... ستشيح بوجهك متبرما من علو صوته و معدته الخاوية تماما منذ ساعات طويلة تعلن الاحتجاج و تئن بأقصي ما تملك قدرتها الضئيلة علي التحمل . تاركا اياها تتوقف في وسط الكوبري تتاملك تارة و تارة اخري تتأمل الناس داخل سيارتهم المسرعة دون هوادة ... و لن تكون معها و هي تركز نظراتها علي وجة الطفل الذي اعتادت بكاءه ... و تذكرت اباه ... كم يشبهه ... تذكرها لصوته القاس المائل للصراخ دوما كأنه ملك الدنيا و من عليها ... و انسياب دمعة مصبوغة بمرارة ذكرياتها رغما عنها ... و مشهد طردها بكل ما تحمله حروف كلمة قسوة من معان ... و صوته يصفعها بأنكاره ابوته للطفل ... و نظرات زوجته الاخري الشامتة تمزق ظهرها كألف سوط..
ستسعد انت ... متجاهلا ان السعادة مازالت فلسفة راقية عاجزة عن اقتحام عالمها المفروشة أرضة كأبه و المظللة سماءه بغيوم الاحباط ... ستنسي انك قابلتها مرة و هي تبحث عن مأوي و مطعم لها و لطفلها طوال اليوم ... الذي ينتهي بانهيارها علي اي ارض ليلا ... و لن تحترم صمتها و مخزون كلمات التوسل يتناقص من ثقب كرامتها حتي ينفد تماما . حتي و الوقت يمر عليها ثقيلا ... ستقف خلفك كتمثال حجري ... لن تصرخ ... مثلها مثل الطفل ... فالصراخ يحتاج طاقة ... وهو لا يمتلكها ... و لا هي ... قد تعود مبتسما لتري رأسها تهوي لتلتصق عيناها بالنيل ... و شعورها بأن امواجه تتلاطم كانياب وحش هادر .. و هي ترفع رأسها الي السماء بعد ان دارت من الجوع ... ستنظر الي صفحتها الزرقاء بأمل ... و ستمتد يدها لتهرش رأسها الساخن بأصابع صدئة ... ثم ستعود لتنظر الي الصغير ... ثم الي النيل ... و تطيل النظر الي الناس و كيف استطاعت شدة الحرارة ان تقللهم الي اقصي حد ... ستتشبث عيناها بالسماء كانها تقاوم حرارة الشمس في عينيها ... او كأنها تنتظر سقوط الشمس نفسها .. او كأنها لم تعد تهتم بأي شئ ... همهمة الطفل ستجعلها تنظر اليه ... سيبتسم لها ... ستبتسم ... و تختلس عيناها النظرات الي السماء ... و خاطرا ما سيتوغل في عقلها المنهك ... و تظنه يقينا ... ستبتسم للصغير و هي ترفعه لاعلي ... سيبادلها الابتسام بملائكية و هو يظنها تلاعبه كما اعتادا ... سينسي الجوع مؤقتا ... و كلما ارتفع امامها كلما زادت عيناها المتعلقة به اتساعا ... و كلما زادت ضحكاته ... لن تسمع همهمتها :-
- اذهب ... اذهب ...
فقط ستراها و هي تلقي الصغير لاعلي بكل قوتها و احساسه بالابتعاد عنها يزعجه ... سيصرخ بأسمها ... يتزامن صراخه مع لحظه سقوطه ... ستنقشع غيوم الوهم من ذهنها و هي تري اصابع الموت تداعب قيثارة حياته ... ستمد يدها محاولة الامساك به ... ستصرخ بأسمه في جنون ... ستنظر ملتاعة ... ستزداد دقات قلبها و هي تراقب سقوطه و استقبال امواج النيل له ... ستتخيلها معها توقفت لحظة لاحتضان الطفل ... و تستمر في الحركة لا تلوي علي شئ .

حرفان

- احمر... احمر... احمر... مار... مر... مر .
بصوته المزعج اخذ يردد الكلمة حتي غطي تماما علي صرير السيارات المتوقفة فجأة ... و كلمة الاحمر تستقر في لسانه علي اخر حرفين ...
وداخل سيارته الفارهة اشعل سيجارته نافثا دخانها في غضب ... وهو يتأمل ذلك المتشرد الذي يجيئ و يروح امامه غير مهتم بأي شخص ... او اي شئ ...
كان يكره اي يد تمنعه من التقدم ايا كانت ومهما كان يفعله كانت مرارة حلقه تزداد بمقدار ما يقف او يعاق عن الانطلاق ...
تأمل في ذهنه كلمة مرارة .. و اخر حرفين في كلمة احمر ... ممسكا للمرة الالف بخطاب استدعاء المدعي العام له ... و مقبض حقيبة سفره للمرة الالف و واحد ...
- اخضر ...اخضر... اخضر...ضار... ضر... ضر.
عاد صوت المتشرد يعوي و معه عادت الحياة الي سرب السيارات حوله ... لكنه لم يتحرك ... احس بهذه السيارات تنطلق بهمه كأنما يشجعها الشيطان نفسه ... تذكر كيف كان ينطلق بأعلي سرعة ايام كان يريد الاضرار بأحدهم ... و ما اكثرهم ... تأمل الاشارة الخضراء و كيانه كله يتهادي مبتعدا عنه ... كلما تذكر ما ينتظره اذا بقي ... و ما ينتظره اذا رحل .
معاك سيجارة ؟!
اخرجه من شروده ... لكنه لم يبد عليه اي رد فعل ... فقط مد يده ليناول المتشرد علبه سجائره كلها ... رآه يشعل واحدة متجها الي الاسفلت مرددا :-
اصفر ...اصفر... اصفر... فار... فر... فر .
مرة اخري عادت لعنة الحرفين تطارد ذهنه و عيناه تتعلق بالمتشرد الذي افترش الرصيف نائما علي ظهره واضعا قدما علي الاخري كأن لا شئ يعنيه .. و السيارات حوله تسرع متعمدة الهروب من الاشارة القادمة هروبهم من الموت ... او كأنهم يهربون منه هو ... يسبقونه ...
حاول التحرك ... لم يستطع ... شيئا ما جعله يتابع المتشرد ...شيئا لم يدرك ما هو ... شيئا اجبره علي خلع حذائه ... علي الخروج من سيارته ... علي افتراش الارض بجوار المتشرد متخذا نفس وضعيته ... تاركا حذائه ملقي علي كرسي القيادة ... حيث كان يجلس .

خيانة

مس ابهامه برأس سبابته و هو يتذكر دماءه التي كتبت عهودا للحب و الاخلاص مع دماءها ...
و للمرة المليون بعد المائة يرسل لها رسالة حب كما اعتادا ...
و عينه الاخري تبحث عن تلك الاخري بشبقٍ لم يفكر في جمحه...
و قدماه تسيران علي اشواك ظن اعتياده لها ...
مصرا علي لعب دور الكومبارس في مسرحية قادمة...
مستخفا بلعب دور البطولة في مسرحيته الحالية ...
- اتأخرت كتير؟
= كتير قوي.
لا يعرف ما دفعه لرفع بنصره الايسر ليريها خاتم زواجه ...
= شوفتي انتي اتأخرتي قد ايه؟!
ضحكت في استهتار ثم همست كشيطان يفح:
- يبقي حرام علينا نتأخر عن مستقبلنا أكتر من كده.
استجاب دون مقاومة ...
حتي و يدها تمتد في عنف لأحتضان يده...
ظل صامتا ....
حتي و خاتمه المعدني يخدش اصابعها ...
ظل صامتا ....
حتي و قطرات دمائها تسيل ...
ظل صامتا...
فقط ...
مد ابهامه ليمس ابهامها ... معانقا شيطانها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يشرفني قراءة تعليقك ايا كان... فردودك اثبات وجودك